فصل: ذكر إحراق قصر صاحب الزنج:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.حوادث سنة ثمان وستين ومائتين:

.ذكر أخبار الزنج:

في هذه السنة في المحرم خرج إلى الموفق من قواد الخبيث جعفر بن إبراهيم المعروف بالسحان، وكان من ثقات الخبيث، فاتاع لذلك، وخلع عليه الموفق، وأحسن إليه، وحمله في سميرية إلى إزاء قصر الخبيث، فكلم الناس من أصحابه، وأخبرهم أنهم في غرور، وأعلمهم بما وقف عليه من كذب الخبيث وفجوره، فاستأمن في ذلك اليوم خلق كثير من قواد الزنج وغيرهم، فاحسن إليهم الموفق، وتتابع الناس في طلب الأمان.
ثم أقام الموفق لا يحارب ليريح أصحابه إلى شهر ربيع الآخر، فلما انتصف ربيع الآخر قصد الموفق إلى مدينة الخبيث، وفرق قواده على جهاتهأن وجعل مع كل طائفة منهم من النقابين جماعة لهدم السور، وتدم إلى جميعهم أن لا يزيدوا على هدم السور، ولا يدخلوا المدينة، وتقدم إلى الرماة أن يحموا بالسهام من يهدم السور وينقبه، فتقدموا إلى المدينة من جهاتها وقابلوهأن فوصلوا إلى السور، وثلموه في مواضع كثيرة.
ودخل أصحاب الموفق من جميع تلك الثلم، وجاء أصحاب الخبيث يحاربونهم، فهزمهم أصحاب الموفق وتبعوهم حتى أوغلوا في طلبهم، فاختلفت بهم طرق المدينة، فبلغوا أبعد من الموضع الذي وصلوا إليه في المرة الأولى، وأحرقوأن وأسروأن وتراجع الزنج عليهم، وخرج الكمناء من مواضع يعرفونها ويجهلها الآخرون، فتحيروأن ودافعوا عن أنفسهم، وتراجعوا نحودجلة بعد أن قتل منهم جماعة، وأخذ الزنج أسلابهم.
ورجع الموفق إلى مدينته، وأمر بجمعهم، فلامهم على مخالفة أمره، والإفساد عليه من رأيه وتدبيره، وأمر بإحصاء من فقد، وأقر ما كان لهم من رزق على أولادهم وأهليهم، فحسن ذلك عندهم وزاد في صحة نياتهم.

.ذكر الوقعة بين المعتضد والأعراب:

وفي هذه السنة أوقع أبوالعباس أحمد بن الموفق، وهوالمعتضد بالله، بقوم من الأعراب كانوا يحملون الميرة إلى عسكر الخبيث، فقتل منهم جماعة، وأسر الباقين، وغمن ما كان معهم، وأرسل إلى البصرة من أقام بها لأجل قطع الميرة.
وسير الموفق رشيقأن مولى أبي العباس، فأوقع بقوم من بني تميم كانوا يجلبون الميرة إلى الخبيث، فقتل أكثرهم، وأسر جماعة منهم، فحمل الأسرى والرؤوس إلى الموفقية، فأمر بهم الموفق، فوقفوا بإزاء عسكر الزنج، وكان فيهم رجل يسفر بين صاحب الزنج والأعراب بجلب الميرة، فقطعت يده ورجله، وألقي في عسكر الخبيث، وأمر بضرب أعناق الأسارى، وانقطعت الميرة بذلك عن الخبيث بالكلية، فأضر بهم الحصار، وأضعف أبدانهم، فكان يسال الأسير والمستأمن عن عهده بالخبز فيقول: عهدي ه منذ زمان طويل.
فلما وصلوا إلى هذا الحال رأى الموفق أن يتابع عليهم الحرب ليزيدهم ضراً وجهدأن فكثر المستأمنون في هذا الوقت، وخرج كثير من أصحاب الخبيث، فتفرقوا في القرى والأنهار البعيدة في طلب القوت، فبلغ ذلك الموفق، فأمر جماعة من قواد غلمانه السودان بقصد تلك المواضع ودعوة من بها إليه، فمن أبى قتلوه، فقتلوا نهم خلقاً كثيراً وأتاه أكثر منهم.
فلما كثر المستأمنون عند الموفق عرضهم، فمن كان ذا قوة وجلد أحسن إليه وخلطهم بغلمانه، ومن كان منهم ضعيفأن أوشيخأن أوجريحاً قد أزمنته الجراحة كساه، وأعطاه دراهم، وأمر به أن يحمل إلى عسكر الخبيث فيلقى هناك، ويؤمر بذكر ما رأى من إحسان الموفق إلى من صار إليه، وأن ذلك رأيه فيهم، فتهيأ له بذلك ما أراد من استمالة أصحاب الخبيث.
وجعل الموفق وابنه أبوالعباس يلازمان قتال الخبيث تارة هذا وتارة هذأن وجرح أبوالعباس ثم برأ.
وكان من جملة من قتل من أعيان قواد الخبيث: بهبود بن عبد الوهاب، وكان كثير الخروج في السميريات، وكان ينصب عليها أعلاماً تشبه أعلام الموفق، فإذا رأى من يستضعفه أخذه وأخذ من ذلك مالاً جزيلأن فواقعه في بعض خرجاته أبوالعباس، فأفلت بعد أن أشفى على الهلاك، ثم إنه خرج مرة أخرى فرأى سميرية فيها بعض أصحاب أبي العباس، فقصدها طامعاً في أخذهأن فحاربه أهلهأن فطعنه غلام من غلمان أبي العباس في بطنه فسقط في الماء، فأخذه أصحابه، فحملوه إلى عسكر الخبيث، فمات قبل وصوله، فأراح الله المسلمين من شره.
وكان قتله من أعظم الفتوح، وعظمت الفجيعة على الخبيث وأصحابه، واشتد جزعهم عليه، وبلغ الخبر الموفق بقتله، فأحضر ذلك الغلام، فوصله، وكساه، وطوقه، وزاد في أرزاقه، وفعل بكل من كان معه في تلك السميرية نحوذلك؛ ثم ظفر الموفق بالدوابني وكان ممايلاً لصاحب الزنج.

.ذكر أخبار رافع بن هرثمة:

لما قتل أحمد بن عبد الله الخجستاني، على ما ذكرناه، وكان قتله هذه السنة، اتفق أصحابه على رافع بن هرثمة فولوه أمرهم.
وكان رافع هذا من أصحاب محمد بن طاهر بن عبد اله بن طاهر، فلما استولى يعقوب بن الليث على نيسابور، وأزال الطاهرية، صار رافع في جملته، فلما عاد يعقوب إلى سجستان صحبه رافع؛ وكان طويل الحية، كريه الوجه، قليل الطلاقة، فدخل يوماً على يعقوب، فلما خرج من عنده قال: أنا لا أميل إلى هذا الرجل، فليلحق بما شاء من البلاد؛ فقيل له ذلك، ففارقه وعاد إلى منزله بتامين، وهي من باذغيس، وأقام به إلى أن استقدمه الخجستاني، على ما ذكرناه، وجعله صاحب جيشه.
فلما قتل الخجستاني اجتمع الجيش عليه، وهوبهراة، فأمروه كما ذكرناه، وسار رافع من هراة إلى نيسابور، وكان أبوطلحة بن شركب قد وردها من جرجان، فحصره فيها رافع وقطع الميرة عنه وعن نيسابور، فاشتد الغلاء بها ففارقها أبوطلحة، ودخلها رافع فأقام بها وذلك سنة تسع وستين ومائتين، فسار أبوطلحة إلى مرو، وولى محمد بن مهتدي هراة، وخطب لمحمد ابن طاهر بمرووهراة، فقصده عمروبن الليث، فحاربه، فهزمه، واستخلف عمروبمرومحمد بن سهل بن هاشم، وعاد عنهأن وخرج شركب إلى بيكند، واستعان بإسماعيل بن أحمد الساماني، فأمده بعسكره، فعاد إلى مرو، فأخرج عنها محمد بن سهل، وأغار على أهل البلد، وخطب لعمروبن الليث، وذلك في شعبان سنة إحدى وسبعين.
وقلد الموفق تلك السنة أعمال خراسان محمد بن طاهر، وكان ببغداد، فاستخلف محمد على أعماله رافع بن هرثمة، ما خلا ما وراء النهر فإنه أقر عليه نصر بن أحمد، ووردت كتب الموفق إلى خراسان بذلك، وبعزل عمروبن الليث ولعنه، فسار رافع إلى هراة وبها محمد بن مهتدي، خليفة أبي طلحة شركب، فقتله يوسف بن معبد وأقام بهراة، فلما وافاه رافع استأمن إله يوسف فأمنه، وعفا عنه، فاستعمل على هراة مهدي بن محسن، فاستمد رافع إسماعيل بن أحمد، فسار إليه بنفسه في أربعة آلاف فارس، واستقدم رافع أيضاً علي بن الحسين المروروذي، فقدم عليه، فساروا بأجمعهم إلى شركب، وهوبمرو، فحاربوه فهزموه، وعاد إسماعيل إلى محازل وذلك سنة اثنتين وسبعين ومائتين، فسار شركب إلى هراة، فطابقه مهدي وخالف رافعأن فقصدهما رافع فهزمهما.
وأما شركب فإنه لحق بعمروبن الليث؛ وأما مهدي فإنه اختفى في سرب، فدل عليه رافع، فأخذه وقال له: تباً لك يا قليل الوفاء! ثم عفا عنه وخلى سبيله، وسار رافع إلى خوارزم سنة اثنتين وسبعين فجبى أموالها ورجع إلى نيسابور.

.ذكر الحوادث بالأندلس وبإفريقية:

في هذه السنة سير محمد بن عبد الرحمن، صاحب الأندلس، جيشاً مع ابنه المنذر إلى المخالفين عليه، فقصد مدينة سرقسطة، فأهلك زرعهأن وخرب بلدهأن وافتتح حصن روطة، فأخذ منه عبد الواحد الروطي، وهومن أشجع أهل زمانه، وتقدم إلى دير تروجة، وبلد محمد بن مركب بن موسى، فهتكا بالغارة، وقصد مدينة لاردة وقرطاجنة فكان فيها إسماعيل بن موسى، فحاربه، فأذعن إسماعيل بالطاعة، وترك الخلاف وأعطى رهائنه على ذلك، وقصد مدينة أنقرة وهي للمشركين، فافتتح هنالك حصوناً وعاد.
وفيها أوقع إبراهيم بن أحمد بن الأغلب بأهل بلد الزاب، وكان قد حضر وجوههم عنده، فأحسن إليهم، ووصلهم، وكساهم، وحملهم، ثم قتل أكثرهم، حتى الأطفال، وحملهم على العجل إلى حفرة فألقاهم فيها.
وفيها سارت سرية بصقلية مقدمها رجل يعرف بأبي الثور، فلقيهم جيش الروم، فأصيب المسلمون كلهم غير سبعة نفر، وعزل الحسن بن العباس عن صقلية، ووليها محمد بن الفضل، فبث السرايا في كل ناحية من صقلية وخرج هوفي حشد وجمع عظيم، فسار إلى مدينة قطانية فأهلك زرعهأن ثم رحل إلى أصحاب الشلندية فقاتلهم، فأصاب فيهم فأكثر القتل، ثم رحل إلى طبرمين فافسد زرعهأن ثم رحل فلقي عساكر الروم، فاقتتلوأن فانهزم الروم، وقتل أكثرهم فكانت عدة القتلى ثلاثة آلاف قتيل، ووصلت رؤوسهم إلى بلرم.
ثم سار المسلمون إلى قلعة كان الروم بنوها عن قريب، وسموها مدينة الملك، فملكها المسلمون عنوة، وقتلوا مقاتليهأن وسبوا من فيها.

.ذكر عدة حوادث:

فيها سار عمروبن الليث إلى فارس لحرب عاملها محمد بن الليث عليهأن فهزمه عمرو، واستباح عسكره، ونجا محمد، ودخل عمرواصطخر فنهبها وأصحابه، ووجه في طلب محمد، فظفر به، وأخذه أسيرأن ثم سار إلى شيراز فأقام بها.
وفيها زلزلت بغداد في ربيع الأول، ووقع بها أربع صواعق.
وفيها زحف العباس بن أحمد بن طولون لحرب أبيه فخرج إليه أبوه إلى الاسكندرية، فظفر به، ورده إلى مصر، فرجع معه إليهأن وقد تقدم خبره سابقاً.
وفيها أوقع أخوشركب بالخجستاني واخذ أمه.
وفيها وثب ابن شبث بن الحسين، فأسر عمر بن سيما عامل حلوان.
وفيها انصرف أحمد بن أبي الأصبع من عند عمروبن الليث، وكان عمروقد أنفذه إلى أحمد بن عبد العزيز بن أبي دلف، فقدم معه بمال، فأرسل عمروإلى الموفق من المال ثلاثمائة ألف دينار، وخمسين مناص مسكأن وخمسين مناً عنبرأن ومائتي من عود، وثلثمائة ثوب وشي، وآنية ذهب وفضة، ودواب، وغلماناً بقيمة مائتي ألف دينار.
وفها ولي كيغلغ الخليل بن رمال حلوان، فنالهم بالمكاره بسبب عمر ابن سيمأن وأخذهم بجزيرة ابن شبث، وضمنوا له خلاص عمر وإصلاح ابن شبث.
وفيها كانت وقعة بين أذكوتكين بن أساتكين وبين أحمد بن عبد العزيز ابن أبي دلف، فهزمه أذكوتكين، وغلبه على قم.
وفيها وجه عمروبن الليث قائداً بأمر أبي احمد إلى محمد بن عبيد الله الكردي، فأسره القائد وحمله إليه.
وفيها في ذي القعدة، خرج بالشام رجل من ولد عبد الملك بن صالح الهاشمي يقال له بكار بين سلمية وحلب وحمص، فدعا لأبي أحمد، فحاربه ابن عباس الكلابي، فانهزم الكلابي، فوجه إليه لؤلؤ صاحب ابن طولون قائداً يقال له يوذر في عسكر، فرجع وليس معه كبير أمر.
وفيها اظهر لؤلؤ الخلاف على مولاه أحمد بن طولون.
وفيها قتل أحمد بن عبد الله الخجستاني في ذي الحجة، قتله غلام له.
وفيها قتل أصحاب أبي الساج محمد بن علي بن حبيب اليشكري بالقرية، بناحية واسط، ونصب رأسه ببغداد.
وفيها حارب محمد بن كيجور علي بن الحسين كفتمر، فأسر ككفتمر، ثم أطلقه، وذلك في ذي الحجة.
وفيها سار أبوالمغيرة المخزومي إلى مكة، وعاملها هارون بن محمد الهاشمي، فجمع هارون جمعاً احتمى بهم، فسار المخزومي إلى مشاش فغور ماءهأن وإلى جدة فنهب الطعام، وأحرق بيوت أهلهأن فصار الخبز بمكة: أوقيتان بدرهم.
وفيها خرج ملك الروم المعروف بابن الصقلبية، فنازل ملطية، فأعانهم أهل مرعش والحدث، فانهزم ملك الروم.
وغزا الصائفة، من ناحية الثغور الشامية، الفرغاني، عامل ابن طولون، فقتل من الروم بضعة عشر ألفاً، وغمن الناس، فبلغ السهم أربعين ديناراً.
وحج بالناس فيها هارون بن محمد بن إسحاق الهاشمي، وابن أبي الساج على الأحداث والطريق.
وفيها مات محمد بن عبد الله بين عبد الحكم، والبصري، الفقيه المالكي، وكان قد صحب الشافعي، وأخذ عنه العلم.

.حوادث سنة تسع وستين ومائتين:

.ذكر أخبار الزنج:

وفي هذه السنة رمي الموفق بسهم في صدره؛ وكان سبب ذلك أن بهبود لما هلك طمع العلوي في ما له من الأموال، وكان قد صح عنده أن ملكه قد حوى مائتي ألف دينار، وجوهرأن وفضه، فطلب ذلك، واخذ أهله وأصحابه فضربهم، وهدم أبنيته طمعاً في المال، فلم يجد شيئأن فكان فعله مما أفسد قلوب أصحابه عليه، ودعاهم إلى الهرب منه، فأمر الموفق بالنداء بالأمان في أصحاب بهبود، فسارعوا إليه فألحقهم في العطاء بمن تقدم.
ورأى الموفق ما كان يتعذر عليه من العبور إلى الزنج في الأوقات التي تهب فيها الرياح لتحرك الأمواج، فعزم على أن يوسع لنفسه ولأصحابه موضعاً في الجانب الغربي، فأمر بقطع النخل وإصلاح المكان وأن يعمل له الخنادق والسور ليأمن البيات، وجعل حماية العمالين فيه نوباً على قواده.
فعلم صاحب الزنج وأصحابه أن الموفق إذا جاورهم قرب على من يريد اللحاق به المسافة مع ما يدخل قلوب أصحابه من الخوف، وانتقاض تدبيره عليه، فاهتموا بمنع الموفق من ذلك وبذل الجهد فيه، وقاتلوا أشد قتال، فاتفق أن الريح عصفت في بعض تلك الأيام وقائد من القواد هناك، فانتهز الخبيث الفرصة في إنفاذ هذا القائد وانقطاع المدد عنه، فسير إليه جميع أصحابه، فقاتلوه، فهزموه، وقتلوا كثيراً من أصحابه، ولم تجد الشذوات التي لأصحاب الموفق سبيلاً إلى القرب منهم خوفاًمن الزنج أن تلقيها على الحجارة فتنكسر، فغلب الزنج عليهم، وأكثروا القتل والأسر، ومن سلم منهم ألقى نفسه في الشذوات وعبروا إلى الموفقية، فعظم ذلك على الناس.
ونظر الموفق فرأى أن نزلوه بالجانب الغربي لا يأمن عليه حيلة الزنج وصاحبهم، وانتهاز فرصة، لكثرة الأدغال، وصعوبة المسالك، وأن الزنج أعرق بتلك المضايق وأجرأ عليها من أصحابه، فترك ذلك، وجعل قصده إلى هدم سور الفاسق وتوسعة الطريق والمسالك، فأمر بهدم السور من ناحية النهر المعروف بمنكي، وباشر الحرب بنفسه، واشتد القتال، وكثر القتل والجراح من الجانبين، ودام ذلك أياماً عدة.
وكان أصحاب الموفق لا يستطيعون الولوج لقنطرتين كانتا في نهر منكي، كان الزنج يعبرون عليهما وقت القتال، فيأتون أصحاب الموفق من وراء ظهورهم فينالون منهم، فعمل الحيلة في إزالتهمأن فأمر أصحابه بقصدهما عند اشتغال الزنج وغفلتهم عن حراستهمأن وأمرهم أن يعدوا الفؤوس والمناشير، وما يحتاجون إليه من الآلات، فقصدوا القنطرة الأولى نصف النهار، فأتاهم الزنج لمنعهم، فاقتتلوأن فانهزم الزنج، وكان مقدمهم أبوالندى، فأصابه سهم في صدره فقتله، وقطع أصحاب الموفق القنطرتين ورجعوا.
وألح الموفق على الخبيث بالحرب، وهدم أصحابه من السور ما أمكنهم، ودخلوا المدينة وقاتلوا فيهأن وانتهوا إلى داري ابن سمعان وسليمان بن جامع، فهدموهما ونهبوا ما فيهمأن وانتهوا إلى سويقة للخبيث، سماها الميمونة، فهدمت وأخربت، وهدموا دار الحياتي، وانتهبوا ما كان فيها من خزائن الفاسق، وتقدموا إلى الجامع ليهدموه، فاشتدت محاماة الزنج عنه، فلم يصل إليه أصحاب الموفق لأنه كان قد خلص مع الخبيث نخبة أصحابه وأرباب البصائر، فكان أحدهم يقتل، أويجرح، فيجذبه الذي إلى جنبه ويقف مكانه.
فلما رأى الموفق ذلك أمر أبا العباس بقصد الجامع مع أحد أركانه بشجعان أصحابه، وأضاف إليهم الفعلة للهدم، ونصب السلاليم، فعل ذلك، وقاتل عليه أشد قتال، فوصلوا إليه، فهدموه، فاخذ منبره، فأتي به الموفق؛ ثم عاد الموفق لهدم السور فأكثر منه، وأخذ أصحابه دواوين الخبيث وبعض خزائنه، فظهر للموفق أمارات الفتح، فإنهم لعلى ذلك إذ وصل سهم إلى الموفق فأصابه في صدره، رماه به رومي كان مع صاحب الزنج، اسمه قرطاس، وذلك لخمس بقين من جمادى الأولى، فستر الموفق ذلك، وعاد إلى مدينته وبات، ثم عاد إلى الحرب على ما به من ألم الجراح ليشتد بذلك قلوب أصحابه، فزاد ف علته، وعظم أمرهأن حتى خيف عليه.
واضطرب العسكر والرعية وخافوأن فخرج من مدينته جماعة، وأتاه الخبر، وهوفي هذه الحال، بحادث في سلطانه، فأشار عليه أصحابه وثقاته بأن يعود إلى بغداد ويخلف من يقوم مقامه، فأبى ذلك، وخاف أن يستقيم من حال الخبيث ما فسد، واحتجب عن الناس مدة، ثم برأ من علته، وظهر لهم، ونهض لحرب الخبيث، وكان ظهوره في شعبان من هذه السنة.

.ذكر إحراق قصر صاحب الزنج:

لما صح الموفق من جراحه عاد إلى ما كان عليه من محاربة العلوي، وكان قد أعاد بناء بعض الثلم في السور، فأمر الموفق بهدم ذلك، وهدم ما يتصل به.
وركب في بعض العشايأن وكان القتال، ذلك اليوم، متصلاً مما يلي نهر منكي، والزنج مجتمعون فيه قد شغلوا بتلك الجهة، وظنوا أنهم لا يأتون إلا منهأن فأتى الموفق ومعه الفعلة، وقرب من نهر منكي وقاتلهم، فلما اشتدت الحرب أمر الذين بالشذوات بالمسير إلى أسفل نهر أبي الخصيب، وهوفارغ من المقاتلة والرجالة، فقدم أصحاب الموفق، وأخرجوا الفعلة، فهدموا السور من تلك الناحية، وصعد المقاتلة فقتلوا في النهر مقتلة عظيمة، وانتهوا إلى قصور من قصور الزنج فأحرقوهأن وانتهبوا ما فيهأن واستنقذوا عدداً كثيراً من النساء اللواتي كن فيهأن وغمنوا منها.
وانصرف الموفق، عند غروب الشمس، بالظفر والسلامة، وبكر إلى حربهم، وهدم السور، فأسرع الهدم حتى اتصل بدار الكلابي وهي متصلة بدار الخبيث، فلما أعيت الخبيث الحبل أشار عليه علي بن أبان بإجراء الماء على السباخ، وأن يحفر خنادق في مواضع عدة يمنعهم عن دخول المدينة، ففعل ذلك؛ فرأى الموفق أن يجعل قصده لطم الخنادق، والأنهار، والمواضع المغورة فدام ذلك، فحامى عنه الخبثاء، ودامت الحرب، ووصل إلى الفريقين من القتل والجراح أمر عظيم، وذلك لتقارب ما بين الفريقين.
فلما رأى شدة الأمر من هذه الناحية قصد لإحراق دار الخبيث، والهجوم عليها من دجلة، فكان يعوق عن ذلك كثرة ما أعد الخبيث لها من المقاتلة والحماة عن داره، فكانت الشذا إذا قربت من قصره رميت من فوق القصر بالسهام، والحجارة من المنجنيق والمقالع، وأذيب الرصاص وأفرغ عليهم، فتعذر إحراقها لذلك، فأمر الموفق أن تسقف الشذا بالأخشاب، ويعمل عليها الجبس ويطلى بالأدوية التي تمنع النار من إحراقهأن ففرغ منهأن ورتب فيها أنجاد أحابه، ومن النفاطين جمعاً كثيراً.
واستأمن إلى الموفق محمد بن سمعان، كاتب الخبيث، وكان أوثق أصحابه في نفسه، وكان سبب اسئمانه أن الخبيث أطلعه إلى أنه عازم على الخلاص وحده بغير أهل ولا مال، فلما رأى ذلك من عزمه أرسل يطلب الأمان، فأمنه الموفق وأحسن إليه، وقيل: كان سبب خروجه أنه كان كارهاً لصحبة الخبيث، مطلعاً على كفره وسوء باطنه، ولم يمكنه التخلص منه إلى الآن ففارقه، وكان خروجه عاشر شعبان.
فلما كان الغد بكر الموفق إلى محاربة الخبثاء، فأمر أبا العباس بقصد دار محمد الكرنابي، وهي بإزاء دار الخبيث، وإحراقها وما يليها من منازل قواد الزنج، ليشغلهم بذلك عن حماية دار الخبيث، وأمر المرتبين في الشذا المطلية بقصد دار الخبيث وإحراقهأن ففعلوا ذلك، وألصقوا شذواتهم بسور قصره، وحاربهم الفجرة أشد حرب، ونضحوهم بالنيران، فلم تعمل شيئأن واحرق من القصر الرواشين والأبنية الخارجة، وعملت النار فيهأن وسلم الذين كانوا في الشذا مما كان الخبثاء يرسلونه عليهم بالظلال التي كانت في الشذأن وكان ذلك سبباً لتمكينهم من قصره.
وأمر الموفق الذين في الشذا بالرجوع، فرجعوأن فأخرج من كان فيها ورتب غيرهم، وانتظر إقبال المد وعلوه، فلما أقبل عادت الشذا إلى قصره، وأحرقوا بيوتاً منه كانت تشرع على دجلة، فأضرمت النار فيهأن واتصلت، وقويت، فأعجلت الخبيث ومن كان معه عن التوقف على شيء مما كان له من الأموال والذخائر وغير ذلك، فخرج هاربأن وتركه كله.
وعلا غلمان الموفق قصره مع أصحابهم، فانتهبوا ما لم تأت النار عليه من الذهب والفضة والحلي وغير ذلك، واستنقذوا جماعة ن النساء اللواتي كان الخبيث يأنس بهن ممن كان استرقهن، ودخلوا دوره ودور ابنه انكلاي، فاحرقوها جميعأن وفرح الناس بذلك، وتحاربوا هم وأصحاب الخبيث على باب قصره، فكثر القتل في أصحابه، والجراح والأسر، وفعل أبوالعباس في دار الكرنابي من النهب والهدم والإحراق مثل ذلك، وقطع أبوالعباس، يومئذ، سلسلة عظيمة كان الخبيث قطع بها نهر أبي الخصيب ليمنع الشذا من دخوله، فحازها أبوالعباس وأخذها معه.
وعاد الموفق بالناس مع المغرب مظفرأن وأصيب الفاسق في ماله ونفسه وولده، ومن كان عنده من نساء المسلمين، مثل الذي أصاب المسلمين منه من الذعر والجلاء وتشتت الشمل والمصيبة، وجرح ابنه انكلاي في بطنه جراحة أشفى منها على الهلاك.

.ذكر غرق نصير:

وفي يوم الأحد لعشر بقين من شعبان غرق أبوحمزة نصير، وهوصاحب الشذوات.
وكان سبب غرقه أن الموفق بكر إلى القتال، وأمر نصيراً بقصد قنطرة كان الخبيث عملها في نهر أبي الخصيب، دون الجسرين اللذين كان اتخذهما على النهر، وفرق أصحابه من الجهات، فعجل نصير فدخل نهر أبي الخصيب، في أول المد، في عدة من شذواته، فحملها الماء فألصقها بالقنطرة، ودخلت عدة من شذوات الموفق مع غلمانه ممن لم يأمرهم بالدخول، فصكت شذوات نصير، وصك بعضها بعضأن ولم يبق للملاحين فيها عمل.
ورأى الزنج ذلك فاجتمعوا على جانبي النهر، وألقى الملاحون أنفسهم في الماء خوفاً من الزنج، ودخل الزنج الشذوات، فقتلوا بعض المقاتلة، وغرق أكثرهم، وصابرهم نصير، حتى خاف الأسر، فقذف نفسه في الماء فغرق، وأقام الموفق يومه يحاربهم، وينهبهم، ويحرق منازلهم، ولم يزل يومه مستعلياً عليهم.
وكان سليمان بن جامع ذلك اليوم من أشد الناس قتالاً لأصحاب الموفق، وثبت مكانه، حتى خرج عليه كمين للموفق، فانهزم أصحابه، وجرح سليمان جراحة في ساقه، وسقط لوجهه في موضع كان فيه حريق، وفيه بعض الجمر، فاحترق بعض جسده، وحمله أصحابه بعد أن كاد يؤسر؛ وانصرف الموفق سالماً ظافراً؛ وأصاب الموفق المفاصل، فبقي به شهر شعبان، وشهر رمضان، وأياماً من شوال، وأمسك عن حرب الزنج، ثم برأ وتماثل فأمر بإعداد آلة الحرب.